استعمالات الأسماء
واستعمال أسماء الجمال, والحسن, والزينة, ونحو ذلك في الأعمال الصالحة, والقبح, والشين, والدنس في الأعمال الفاسدة, أمر ظاهر في الكتاب والسنة, وكلام العلماء.
مثل: اسم الطيب, والطهارة, والخبث, والنجاسة, ومن ذلك ما في حديث أبي ذر رضي الله عنه المشهور وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حكمة آل داود: حق على العاقل أن يكون له ساعة, يناجي فيها ربه, وساعة يحاسب فيها نفسه, وساعة يكون فيها مع أصحابه الذين يخبرونه عن ذات نفسه, وساعة يخلو فيها بلذاته, فيما يحل ويجمل, فذكر: الحل والجمال», وهذا يشهد لقول الفقهاء في العدالة: إنها صلاح الدين, والمروءة قالوا والمروءة: استعمال ما يجمله, ويزينه, وتجنب ما يدنسه, ويشينه, وهذا يرجع إلى الحسن, والقبح في الأعمال وأن الأعمال وأن الأعمال تكون حسنة, وتكون قبيحة, وإن كان الحسن هو: الملائم النافع, والقبيح: هو المنافي, فالشيء يكمل, ويجمل, ويحسن بما يناسبه, ويلائمه, وينفعه ويلتذ به, كما يفسد ويقبح بما ينافيه ويضره, ويتألم به, والأعمال الصالحة هي التي تناسب الإنسان, والأعمال الفاسدة هي التي تنافيه.
ولهذا لما قال بعض الأعراب: «إن مدحي زين, وذمي شين, قال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك الله» فمدحه يزين عنده, لأنه مدحه بحق, وذمه يشينه, لأنه حق.
ظهور الأعمال على صفحات الوجوه
وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب: يسري إلى الوجه, والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب: يسري إلى الوجه كما تقدم, ثم إن ذلك: يقوى بقوة الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة, فكلما كثر البر والتقوى: قوى الحسن والجمال, وكلما قوى الإثم والعدوان: قوى القبح والشين حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح, فكم ممن لم تكن صورته حسنة, ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله, وبهاؤه, حتى ظهر ذلك على صورته, ولهذا ظهر ذلك ظهورا بينا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر, عند قرب الموت: فنرى وجوه أهل السنة والطاعة, كلما كبروا ازداد حسنها, وبهاؤها حتى يكون أحدهم في كبره أحسن, وأجمل منه في صغره, ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية, كلما كبروا عظم قبحها وشينها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرا بها في حال الصغر, لجمال صورتها.
وهذا ظاهر لكل احد فيمن يعظم بدعته, وفجوره: مثل الرافضة, وأهل المظالم والفواحش من الترك ونحوهم, فإن الرافضي: كلما كبر قبح وجهه وعظم شينه, حتى يقوى شبهه بالخنزير, وربما مسخ خنزيرا وقردا, كما قد تواتر ذلك عنهم, ونجد المردان من الترك ونحوهم: قد يكون أحدهم في صغره من أحسن الناس صورة, ثم إن الذين يكثرون الفاحشة تجدهم في الكبر أقبح الناس وجوها, حتى إن الصنف الذي يكثر ذلك فيهم من الترك ونحوهم, يكون أحدهم أحسن الناس صورة في صغره, وأقبح الناس صورة في كبره.
وليس سبب ذلك أمرا يعود إلى طبيعة الجسم: بل العادة المستقيمة تناسب الأمر في ذلك, بل سببه: ما يغلب على احدهم من الفاحشة والظلم, فيكون مخنثا, ولوطيا, وظالما, وعونا للظلمة, فيكسوه ذلك قبح الوجه وشينه.
عاقبة الجرأة على الفواحش
ومن هذا: أن الذين قوي فيهم العدوان مسخهم الله قردة وخنازير من الأمم المتقدمة, وقد ثبت في الصحيح: «أنه سيكون في هذه الأمة أيضا من يمسخ قردة وخنازير», فإن العقوبات والمثوبات من جنس السيئات, والحسنات كما قد بين ذلك في غير موضع.
تزيين الشيطان المعاصي لبني آدم
ولا ريب أن ما ليس محبوبا لله من مسخوطاته, وغيرها, تزين في نفوس كثير من الناس حتى يروها جميلة, وحسنة يجدون فيها من اللذات, ما يؤيد ذلك, وإن كانت اللذات متضمنة لآلام أعظم منها.
كما قال تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ]. {آل عمران:14}
وقال: [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ]. {فاطر:8}
وقال تعالى: [وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ].{غافر:37}
وقال: و[كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]. {الأنعام:108}
وقال تعالى: [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]. {الأنفال:48}
وقد قال سبحانه عن المؤمنين: [وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ]. {الحجرات:7}
حكمة الله في التزيين
فهو سبحانه يزين لكل عامل عمله, فيراه حسنا, وإن كان ذلك العمل سيئا, فإنه لولا حسنا لم يفعله, إذ لو رآه سيئا لم يرده, ولم يختره, إذ الإنسان مجبول على محبة الحسن, وبغض السيئ, فالحسن الجميل: محبوب مراد, والسيئ القبيح: مكروه مبغض, والأعيان والأفعال المبغضة من كل وجه, لا تقصد بحال, كما أن المحبوبة من كل وجه لا تترك بحال, ولكن قد يكون الشيء محبوبا من وجه, مكروها من وجه, ويقبح من وجه, ويحسن من وجه, ولهذا: كان الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن, والسارق لا يسرق حين يسرق وهو مؤمن, ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن, كامل الإيمان, فإنه لو كان اعتقاده بقبح ذلك الفعل اعتقادا تاما لم يفعله بحال, ولهذا كان كل عاص لله تعالى جاهلا, كما قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لو كان عالما حق العلم بما فعله, لم يفعل القبيح, ولم يترك الواجب, بل قد زين لكل أمة عملهم.
لكن العاصي: إذا كان معه أصل الإيمان, فإنه لا يزين له عمله من كل وجه, بل يستحسنه من وجه, ويبغضه من وجه, ولكن حين فعله يغلب تزيين الفعل, ولذلك قال: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ], {آل عمران:14} الآية, فإن هنا شيئين: حب الشهوات, وأنه زين ذلك الفحش, وحسن, فرأوا تلك المحبة حسنة, فلذلك استقرت هذه المحبة عندهم, وتمتعوا بهذه المحبات, فإذا رأوا ذلك الحب قبيحا, لما يتبعه من الضرر, لم يستقر ذلك في قلوبهم, فإن رؤية ذلك الحب حسنا, يدعو إليه قبيحا, ينفر عنه, وكذلك ذكر في الإيمان: أنه حببه إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم حتى رأوه حسنا, فإن الشيء: إذا حبب وزين, لم يترك بحال, وهنا أخبر سبحانه: انه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم, وفي الشهوات قال: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ], {آل عمران:14} ولم يقل المزين بل ذكر العموم.
التزيين المتصل بالقلب والتزيين المنفصل
وقال تعالى: [كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ], {الأنعام:108} وكما حذف المزين هناك قال:[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ], {آل عمران:14} فجعل المزين, نفس الحب لها, لم يجعل المزين هو المحبوب, كما أخبر أنه زين لكل أمة عملها, فإن المزين نفس الحب لها, لم يجعل المزين هو المحبوب, بل هو حب الشهوات, فإن المزين إذا كان نفس الحب والعمل لم ينصرف القلب عن ذلك بخلاف, ما لو كان المزين هو المحبوب, فقد زين الشيء المحبوب, ولكن الإنسان لا يحبه, لما يقوم بقلبه من العلم بحاله, والبغض.
ففرق بين التزيين المتصل بالقلب, وتزيين الشيء المنفصل, وكذلك قوله: [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا], {فاطر:8} وهو سبحانه امتن في الإيمان بشيئين: بأنه حببه إلينا, وزينه في قلوبنا, فالنعم تتم بهما: بالعلم والمحبة.
المخنثين وعلة لعنهم
وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه: «لعن المخنثين من الرجال, والمترجلات من النساء», وفي الصحيح أيضا أنه: «لعن المتشبهين من الرجال بالنساء, والمتشبهات من النساء بالرجال», وفي الصحيح: «أنه أمر بنفي المخنثين, وإخراجهم من البيوت».
كما روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء, والمتشبهات من النساء بالرجال».
وفي رواية: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال, والمسترجلات من النساء وقال: أخرجوهم من بيوتكم, فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانة, وأخرج عمر فلانا».
فإذا كان الرجل الذي يتشبه بالنساء في لباسهن وزيهن وزينتهن ملعونا, قد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف بمن يتشبه بهن في مباشرة الرجال له, فيما يتمتع الرجال به, بتمكينه من ذلك, لغرض يأخذه, أو لمحبته لذلك, فكلما كثرت مشابهته لهن, كان أعظم للعنه, وكان معلونا من وجهين: من جهة الفاحشة المحرمة, فإنه يلعن على ذلك, ولو كان هو الفاعل, ومن جهة تخنثه, لكونه من جنس المفعول بهن, فمن جعل شيئا من التخنث دينا, أو طلب ذلك من الصبيان, مثل: تحسين الصبي صورته, أو لباسه, لأجل نظر الرجال, واستمتاعهم بذلك في سماع, وغير سماع, أليس يكون مبدلا لدين الله: من جنس الذي: [َإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ], {الأعراف:28} وإذا كانت الفاحشة العرب المشركين, كشف عوارتهم عند الطواف, لئلا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها, فكيف بما هو أعظم من ذلك.
مقاصد المخنثين
والمخنث: قد يكون مقصوده معاشرة النساء, ومباشرتهن, وقد يكون تخنثه بمباشرة الرجال ونظرهم ومحبتهم, وقد يجمع الأمرين, وفي المتنسكين من الأقسام الثلاثة خلق كثير.
وهؤلاء شر ممن يفعل هذه الأمور على غير وجه التدين: فإن يوجد في الأمم الجاهلية من الترك ونحوهم, من يتشبه فيهم من النساء بالرجال, ومن يتشبه من الرجال بالنساء خلق عظيم, حتى يكون لنسائهم من الإمرة, والملك والطاعة, والبروز للناس, وغير ذلك مما هو من خصائص الرجال ما ليس لنساء غيرهم, وحتى أن المرأة: تختار لنفسها من شاءت من ممالكيها, وغيرهم, لقهرها للزوج, وحكمها, ويكون في كثير من صبيانهم: من التخنث, وتقريب الرجال له, وإكرامه لذلك, أمر عظيم, حتى قد يغار بعض صبيانهم من النساء, وحتى يتخذهم الرجال كالسراري, لكن هم لا يفعلون ذلك تدينا, فالذين يفعلون ذلك تدينا شر منهم, فإنهم جعلوا دينا والفاحشة حسنة, لا لما في ذلك من ميل الطباع.
فهكذا من جعل مجرد الصوت الذي تحبه الطباع حسنا في الدين, فيه شبه من هؤلاء, لكن في المشركين من هذه الأمة من يتدين بذلك, لأجل الشياطين, كما يوجد في المشركين من الترك التتار, وساحرهم الطاغوت, صاحب الجبت الذي تسميه الترك البوق, وهو الذي تستخفه الشياطين, وتخاطبه, ويسألها عما يريد, ويقرب لها القرابين من الغنم المنخنقة, وغير ذلك, ويضرب لها بأصوات الطبول, ونحو ذلك, ومن شرطه: أن يكون مخنثا يؤتى كما تؤتى المرأة, فكلما كانت الأفعال أولى بالتحريم, كانت أقرب إلى الشياطين.
الامتحان يكون في النعم
وهذا الذي ذكرناه: من أن الحسن الصورة, والصوت, وسائر من أنعم الله عليه بقوة, أو بجمال, أو نحو ذلك, إذا اتقى الله فيه كان أفضل ممن لم يؤت ما لم يمتحن فيه, فإن النعم محن, فإن أهل الشهوات من النساء, والرجال يميلون إلى ذي الصورة الحسنة, ويحبونه ويعشقونه, ويرغبونه, بأنواع الكرامات, ويرهبونه عند الامتناع, بأنواع المخوفات, كما جرى ليوسف عليه السلام, وغيره, وكذلك جماله: يدعوه إلى أن يطلب ما يهواه, لأن جماله, قد يكون أعظم من المال المبذول في ذلك.
وكذلك حسن الصوت: قد يدعى إلى أعمال في المكروهات, كما أن المال والسلطان: يحصل بهما من المكنة, ما يدعى مع ذلك إلى أنواع الفواحش والمظال, فإن الإنسان لا تأمره نفسه بالفعل, إلا مع نوع من القدرة, ولا يفعل بقدرته, إلا ما يريده, وشهوات الغي, مستكنة في النفوس, فإذا حصلت القدرة, قامت المحنة, فإما شقي وإما سعيد, ويتوب الله على من تاب, فأهل الامتحان: إما أن يرتفعوا, وإما أن ينخفضوا, وأما تحرك النفوس عن مجرد الصوت, فهذا أيضا محسوس, فإنه يحركها تحريكا عظيما جدا بالتفريح, والتحزين, والإغضاب, والتخويف, ونحو ذلك من الحركات النفسانية, كما أن النفوس تتحرك أيضا: عن الصور, بالمحبة تارة, وبالبغض أخرى, وتتحرك عن الأطعمة بالبغض تارة, والنفرة أخرى, فتحرك الصبيان والبهائم عن الصوت, هو من ذلك, لكن كل ما كان أضعف: كانت الحركة به أشد, فحركة النساء به, أشد من حركة الرجال, وحركة الصبيان: أشد من حركة البالغين, وحركة البهائم, أشد من حركة الآدميين, فهذا يدل على أن قوة التحرك عن مجرد الصوت لقوة ضعف العقل, فلا يكون في ذلك حمد إلا وفيه من الذم أكثر من ذلك, وإنما حركة العقلاء عن الصوت المشتمل على الحروف المؤلفة, المتضمنة للمعاني المحبوبة, وهذا أكمل ما يكون في استماع القرآن.
وأما التحرك بمجرد الصوت: فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه, ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك, بل يعدون ذلك من قلة العقل, وضعف الرأي, كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة, وعن مجرد الأصوات المغضبة.
وقال أبو القاسم: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أذن الله لشيءٍ كأذنه لنبي, يتغني بالقرآن», وروى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء, ما أذن الله لنبي يتغنى بالقرآن».
قال وقيل: إن داود كان يستمع لقراءته الجن, والإنس, والوحش, والطير, إذ قرأ الزبور, وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة, ممن قد مات, ممن سمعوا قراءته, وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه : «لقد أعطى مزمارا من مزامير آل داود», وقال معاذ رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا».
قلت: هذا القول لأبي موسى, كان لم يكن لمعاذ, ومضمون هذه الآثار: استحباب تحسين الصوت بالقرآن, وهذا مما لا نزاع فيه, فالاستدلال بذلك على تحسين بالغناء, أفسد من قياس الربا على البيع, إذ هو من باب تنظير الشعر بالقرآن.
وقال تعالى: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ]. {يس:69}
وقال تعالى: [وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ*إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ]. {الشعراء212:210}
[أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ*وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ], {الشعراء226:225}
وقال تعالى:[وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ*وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ]. {الحاقَّة42:41}
فساد قياس أبي القاسم
وهذا القياس: مثل قياس سماع المكاء, والتصدية الذي ذمه الله في كتابه, وأخبر أنه صلاة المشركين على سماع القرآن الذي أمر الله به في كتابه, وأخبر أنه سماع النبيين والمؤمنين, وقياس لأئمة الصلاة: كالخلفاء الراشدين, وسائر أئمة المؤمنين بالمخنثين المغاني الذين قد يسمون الجد, أو القوالين, وقياس للمؤذن الداعي إلى الصلاة, وسماع القرآن بالمزمار الداعي إلى حركة المستمعين للمكاء, والتصدية.
وقد روى الطبراني في معجمه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي قرآنا, قال: قرآنك الشعر, قال: اجعل لي مؤذنا, قال: مؤذنك المزمار, قال: اجعل لي كتابه, قال: كتابتك الوشم, قال: اجعل لي بيتا, قال: بيتك الحمام, قال: اجعل لي طعاما, قال: طعامك مالم يذكر اسم الله عليه», فمن قاس قرآن الله فالله يجازيه بما يستحقه.
وقد قال الله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا], {مريم:59} فهؤلاء يشتغلون بالشهوات عن الصلاة.
ولهذا فإن من هؤلاء الشيوخ من يقصد الاجتماعات في الحمام, ويكون له فيها حال, وظهور, لكونه مادته من الشياطين, فإن الشيطان يظهر أثره في بيته, وعنده أوليائه, وتأذين مؤذنه, وتلاوة قرآنه, كما يظهر ذلك على أهل المكاء, والتصدية.
السماع نوعين
وإذا كان السماع نوعين: سماع الرحمن, وسماع الشيطان, كان ما بينهما من أعظم الفرقان, لكن الأقسام هنا أربعة: إما أن يشتغل العبد بسماع الرحمن دون سماع الشيطان, أو بسماع الشيطان دون سماع الرحمن, أو يشتغل بالسماعين, أو لا يشتغل بواحد منهما, فالأول: حال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار, والتابعين لهم بإحسان.
وأما الثاني: فحال المشركين الذين قال الله فيهم: [وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ], {الأنفال:35} وهو حال من يتخذ ذلك دينا, ولا يستمع القرآن, فإن كان يشتغل بهذا السماع شهوة لا دينا, ويعرض عن القرآن: فهم الفجار, والمنافقون, إذا أبطنوا حال المشركين.
وأما الذين يشتغلون بالسماعين: فكثير من المتصوفة.
والذين يعرضون عنهما على ما ينبغي: كثير من المتعربة.
فهذه النصوص المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها مدح الصوت الحسن بالقرآن, والترغيب في هذا السماع, فيحتج بها على المعرض عن هذا السماع الشرعي الإيماني, لا يحتج بها على حسن السماع البدعي الشركي.
بل الراغبون في السماعين جميعا, والزاهدون في السماعين جميعا, خارجون عن محض الاستقامة, والشريعة القرآنية الكاملة, هؤلاء:
معتدون, وهؤلاء: مفرطون, وإنما الحق: الرغبة في السماع الإيماني الشرعي, والزهد في: السماعي الشركي البدعي.
ذكر أبو القاسم: حكاية أبي بكر الرقي في الغلام الذي حدا بالجمال حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم, فلما حط عنها, ماتت وحدا بجمل, فهام على وجهه, وقطع حباله, قال الرقي: ولم أظن أني سمعت صوتا أطيب منه ووقعت لوجهي حتى أشار عليه بالسكوت, فسكت فقال: حدثنا أبو حاتم السجستاني, حدثنا أبو نصر السراج, قال حكى الرقي.
قـلـت: مضمون هذه الحكاية, أن الصوت البليغ في الحسن, قد يحرك النفوس تحريكا عظيما, خارجا عن العادة, وهذا مما لا ريب فيه, فإن الأصوات توجب الحركات الإرادية بحسنها, وهي في الأصل ناشئة عن حركات إرادية, ويختلف تأثيرها باختلاف نوع الصوت, وقدره, بل هي من أعظم المحركات, أو أعظمها, وإذا اتفق قوة المؤثر, واستعداد المحل, قوى التأثير, فالنفوس المستعدة لصغر, أو أنوثة, أو جزع, ونحوه, أو لفراغ وعدم شغل, أو ضعف عقل إذا اتصل بها صوت عظيم حسن قوي, أزعجها غاية الإزعاج, لكن هذا لا يدل على جواز ذلك, ولا فيه ما يوجب مدحه وحسنه, بل مثل هذا أدل على الذم والنهى منه, على الحمد والمدح, فإن هذا يفسد النفوس, أكثر مما يصلحها, ويضرها أكثر مما ينفعها, وإن كان فيه نفع, فأثمه أكثر من نفعه, وقد قال الله للشيطان: [وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ], {الإسراء:64} فالصوت الشيطاني يستفز بني آدم, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين, وذكر صوت النعمة, وصوت المعصية, ووصفهما بالحمق والفجور», وهو الظلم والجهل, وقال لقمان لابنه: [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ], {لقمان:19} والمغني بهذه الأصوات: لم يغض من صوته, والمتحركون بها الراقصون, لم يقصدوا في مشيهم, بل المصوتون: أتوا بالأحمق الجاهل, الظالم الفاجر من الأصوات, والمتحركين: أتوا بالأحمق الجاهل الفاحش. من الحركات, وربما جمع الواحد بين هذين النوعين, وجعل ذلك من أعظم العبادات, أنتهى.
*****