بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي نبينا صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة, اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك, ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك, ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا, ومتعنا الله بأسماعنا, وأبصارنا أبداً ما أبقيتنا, وأجعله الوارث منا, يسرني في هذه الليلة أن أتحدث للأخوة, عن موضوعٍ مهم يهُم كُل واحدٍ منا يمسُ عقيدتنا يمسُ شريعتنا, وأخلاقنا وسلوكنا, وإنما كان مناسبا التحدث حول هذا الموضوع, وهو شبهات حول الإسلام لأننا لم نعد كما كُنا في السابق, بل أصبحت ترد علينا ثقافات مختلفة, بألوانٍ وأشكالٍ مختلفة حول الإسلام, والخوفُ كُل الخوفُ على الموحد, السائر إلى الله بلا سلاح بلا علم, فتنطلي عليه مكائد أعداء الإسلام, وشبهاتهم, ويشك في عقيدته ودينه, هذه الشبهات مسلطة على الإسلام, من نواحي عدة.
الناحية الأولى: أن الإسلام لا يصلح نظام حياة لهذا العصر, فهو عندهم لا يفي بمتطلبات العصر, فالإسلام لا يُجيز التعددية السياسية, أي لا يجيز وجود الأحزاب, والديمقراطية المعاصرة بناؤها على وجود الأحزاب, والإسلامُ يمنع من ذلك.
الإسلام يمنع من التعددية الدينية, وهم يريدون من الخلق أن يكونُوا على دين واحد, وأن يؤمنوا إيماناً يرتضيه لهم الغربيون, إيماناً لا ينفع صاحبة, يشككون في القضاء عند المسلمين, يتهمون الإسلام بأنه قيد حرية المرأة.
شُبه وهي في الحقيقة, عند أهل العلم, شُبهٌ متهافته, لا قيمةَ لها عند صاحب العقل, فكيف بمن عندهُ علمً بالشريعة, الإسلامية, لا يخفى عليكم, أن الإسلام شبه مُعطلٌ في أكثر بقاع الأرض, ولم يبقَ بلدٌ يحملُ الإسلام عقيدةٌ, وشريعةً, ونظاماً للحياة, إلا هذا البلد فحينئذٍ هم يوجهون سهامهم بقوة, لتشكيك أهل هذه البلاد بما هم عليه من دين, بل ربما أستخدموا بني جلدتنا ومن يتكلمون بإلسنتا, ليشككوننا في عقائدنا وديننا.
وقبل أن أبدأ باستعراض وتفنيد ما يريدون ترويجه بين المسلمين, أتكلمُ عن الأمور التي هي محلُ ثباتٌ في الإسلام لا يُمكن أن تتغير, وعن الأمور التي يُمكن أن تتغير, هناك أمور لا يُمكن أن تتغير, وهناك أمور قابلة لتغيير.
أول أمر لا يُمكن أن يقبل النقاش عند المسلمين العقيدة. العقيدة: مجموعة حقائق لا تقبل التغيير ولا النسخ, فالإيمان بالله سُبحانه وتعالى لا يقبل التغيير, وكذلك مبادئ العقيدة كُلها لا تقبل التغيير, أو المساومة أو الجدال, قال تعالى: [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ], {الشُّورى:13} ومن هُنا كان الفرق بين الدين والشريعة, فالدين لكافة الأنبياء, وجميع الرسل أما الشرائع فتختلف, لكلِ نبيٍ شريعة تختلف عن النبي الأخر, وشريعة محمدٌ صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الشرائع, بل حتى عيسى عليه السلام إذا عاد إلى الأرض, فإنه يحكم بالشريعة التي جاء بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
فالأول في الأمور الثابتة التي لا يمكن أن تتغير في الإسلام العقيدة, وتشمل أنواع التوحيد الثلاثة, والإيمان بالملائكة, والكتب, والرسل, واليوم الآخر, والقدر.
الأمر الثاني العبادة: فالله شرع أفعالاً خاصة, وأقوالاً خاصة, على كيفيةً خاصة, فالصيام: أمساكٌ عن الطعام والشراب والمفطرات, في زمان مخصوصة, والحج: مناسك معينه لها أزمنتها, وأمكنتها وأركانها, وشروطها, وهكذا بقية العبادات, ومن الواضح أن العبادات ليست كالعقائد, أي أنها ليست حقائق واقعية مهمة في الشرع الكشف عنها وإنما أنشأها الشارع بعد أن لم تكُن وهو حقٌ لله سبحانه وتعالى أن يشرع لعبادة من العبادات ما شاء, لأنه الإله المعبود, فعليهم أن يعودوا لله سُبحانه وتعالى في معرفة العبادة, كماً وكيفاً ومكاناً, وزماناً ولهذا يقول أهل العلم في إحدى القواعد المشهورة "لا يعبد الله إلا بما شرع, ويقولون الأصل في العبادات الحضر, والمنع" فلا يجوز لأحدٍ, أن يؤلفَ عبادةً من عنده , أويحدث صورةً من العبادات المشروعة ثُم يعبد الله بذلك, قال تعالى: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ], {الشُّورى:21} وبهذا الأصل أبطلت جميع البدع في الدين والعبادات التي لم تقم على أساسٍ من الشرع فكل من أراد قربةً من الله, فعليه أن يتقرب إلى الله بما شرعه الله, ومن تقرب إليه بمالم يشرعه ولو كان مظهرهُ طاعة وقربه, فإنه مبتدعٌ ومتلاعبٌ بالدين.
من الأمور الثابته في الدين: أحكام الحدود, كحد الزنا, وحد السرقة,وحد القذف, وحد الرده, وحد الشُرب, فهذه أمورٌ ثابته, وثباتها مهم لأنها تتصل بأهم الأسس التي يُبنى عليها أي مجتمعٌ بشري, فقد شرعت هذه العقوبات لحماية الدين, والعقل, والنسل, والمال, والعرض, ولذلك لم تترك لاجتهادات القضاة, نظراً لأهمية ما يتصل بها ويبنى عليها.
ومن الأمور الثابتة التي لا تقبل التغير في الإسلام, أحكام المُقدرات كأقدار حصص الورثة, بنصف, أو ثلث, أو ربع, وثمن, أو غيرها, فإن هذه الحصص غير قابلةٍ لتغيير.
ومن الأمور الثابتة المُحرمات, التي جاءت في كتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابته, هذه لا تقبل النقاش, ولا يمكن أن تتغير, أو تتبدل فإن حصلَ, أن غُير شيئاً مما تقدم ذكره فإن المسلمين, يكونون قد وقعوا فيما وقع فيه اليهود والنصارى, من تحريف دين الله عز وجل.
أما مواطن التغيير التي تدل على أن الإسلام ليس ديناً جامداً وأنه صالحٌ لكل زمانٌ ومكان.
مواطن التغيير: المعاملات, ولذا فإن موقف الشرع, في ميدان المعاملات يختلف تمام الاختلاف, يختلف أختلافاً جوهرياً عن موقفه في ميدان العقائد والعبادات, فالشريعة جاءت والناس يتعاملون بمعملات لها صور مختلفة, وليست هي التي أنشأت هذه الصور, إنما جاءت والناس يتعاملون.
فكان لها موقف منها, غير موقف: الإنشاء في العبادات, وغير موقف الإخبار والوصف في العقائد, ذلك الموقف إما موقف الإقرار أو التعديل, أو الإلغاء , فإما أن تُقر فتقول أن هذه المعاملة صحيحة, أو تعدل هذه المعاملة أو تلغيها,وهو ما يُسمى بأسلوب الناقد المهذب فهي لا تتدخل في هذا الميدان إلا بمقدار ما تحمي مثلها ومبادئها التي جاءت بها من العدل والتيسير والرحمة, ودفع أسباب التشاحن والبغضاء وربــط, أفراد المجتمع برباط المحبة, والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان, ومن هُنا نعلم أن المعاملات في الإسلام, مجالٌ فسيحٌ للنظر والإجتهاد, ولِذا أكتفى الإسلام فيما يرجع إليها من أحكام دستوريه واجتماعيه,واقتصادية ومدنية, وجنائية اكتفى برسم الخطوط العريضة, والكليات العامة وترك التفصيلات, والتطبيقات للمجتهدين يجيلون فيها عقولهم بما يوافق مصالح الناس, ويكفل حاجياتهم.
ولهذا نرى أن أهل العلم وضعوا بجانب قاعدة, الأصل في العبادات الحظر قالوا المعاملات طلقٌ حتى يرد المنع, أو الأصلُ في المعاملات الإباحة, وليس حالها كحال العبادات , غير أن هذا لا يعني وجود قواعد أو ضوابط, وأصول لا يجوز الخروج عنها أو مخالفتها.
الثاني من الأمور التي تقبل أن تتغير في الإسلام: الأحكام السلطانية وإن شئت قلت بالمفهوم المعاصر: الأحكام الدستورية, إذا نظرنا للأحكام الدستورية نجد النصوص, تسطر الخطوط الرئيسية, لنظام الحكم في الإسلام يقول الله تعالى: [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]. {الشُّورى:38}
فقد سطرت هذه الآية أمر الشورى, وركزت الأحكام السلطانية عليه كأصدق نقطة في نظام الحكم, فضمنت بذلك حقوق الأفراد.
ولكنها لم تفصل, طرق تطبيقها, التي تتم بها الشورى لأنها تختلف باختلاف الأزمان والبيئات, وحتى يتمكن ولاة المسلمين من وضع نظام يلائم حال المسلمين.
من الأشياء القابلة للتغيير من الأحكام ما يسمى بالعقوبات, أو قانون العقوبات إذا نظرنا لقانون العقوبات, فيما عدى الحدود المقررة, نجد آيات الأحكام غير كاملة التفصيل فيها, فقد أوكل الحاكم إلى السائل وسائل التعزير, وضبط مقاديره مثال ذلك قول الله سبحانه وتعالى: [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ]. {المائدة:33}
فالله عز وجل جعلها عائده لاجتهاد الحاكم المسلم, فإن رأى الحاكم المصلحة في القتل قتل, وإن رأى المصلحة في الصلب صلب, وإن رأى المصلحة في تقطيع الأرجل والأيدي فعل ذلك, وإن رأى المصلحة في النفي من الأرض فعل ذلك, والمقصود بالمصلحة: هي المصلحة الشرعية.
أيضاً من الأمور التي تقبل التغيير: تنظيم الدولة السياسي, والإداري, والصحي, والعسكري, وغير ذلك من تغيير المرافق والمؤسسات العامة, فلو فُرض مثلاً أنه وجد بلدان إسلاميان اختلفا في هذه الأمور التي يُمكن أن تتغير في الإسلام, فإنه لا لوم على أحدهما, لأنه يُطبق ما يُلاءم أحوال الناس في بلده, سواء كان في الأمور الصحية أو العسكرية, أو غير ذلك من الأمور.
من هُنا يتبينُ لنا أن الإسلامُ صالحٌ لكل زمانٍ ومكان وحده, دون تعديلاتٌ عليه, أو أضافاتٌ إليه, ومرونة الإسلام نابعةٌ من ذاته, ولا حاجةُ لإضافةُ عناصرُ مرونةٌ أجنبية عنه كالديمقراطية, أو الاشتراكية, الليبرالية, أو البعثية, أو العلمانية لا حاجة بنا إلى ذلك, فديننا غني عن ذلك, وانهيار الإقتصاد الإشتراكي, والرأس مالي ألأكبر في العالم أحد الشواهد على ذلك لمن له أدنى بصيرة.
ومتى طوعنا الإسلام للعصر بإدخال تعديلاتٌ عليه, فإننا نكون بذلك قد سلكنا مسلك الأديان قبل الإسلام وهو التحريف.
وقولنا إن الإسلام صالحٌ لكل زمانٌ ومكان, هذا لا يعني بحال أن الإسلام صالحٌ لكل مجتمع, فصلاحية الإسلام للمجتمعات البشرية, مرهونٌ بقبول تلك المجتمعات للإسلام, وتبنيها لها عقيدةً وشريعةً, ونظامَ حياة لا بتطويع الإسلام, وتعاليمه لثقافتها, وأسلوب حياتها.
أعود مرةً أخرى لبعض الشبه, الواردة على هذه البلاد, يقولون إنه ليس لدينا دستور, ماهو الدستور؟ بزعمهم أن يجتمع فئةٌ منهم وينظروا إلى القوانين فيضعوا ما يُناسب أحوال الناس بزعمهم, هذا هو الدستور, قالوا والإسلام دستورٌ لأُناسٌ مضوا ولا يصلحُ أن يكونَ دستوراً لهذا العصر, وهذا الكلام لا يخفى عليكم لا يُمكن أن يصدر من مسلم, إنما يصدر من الكفار على اختلاف أهوائهم ومقاصدهم, وأغراضهم كما قال تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}, هود87 وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.الأعراف85
والجواب على هذا أن نقول: إن كنتم بنيتم ذلك على ما تزعمونه من الديمقراطية وهو حُكم الشعب للشعب, - وهو تمردٌ على أحكم الحاكمين- أن كنتم بنيتم ذلك على هذه العقيدة , فإن هذا الدستور الذي تقولون لا يُناسب العصر, يؤمن به على ما يزيد مليار من سُكان الأرض وينادون بتطبيقه, في جميع البلاد التي يسكُنها المسلمون, فهو بِهذا بأعلى مراتب الديمقراطية المزعومة, فلا يوجد على وجه الأرض دستورٌ أتفق عليه الخلقُ عدداً وطالبوا به مثل القرآن والسنة, والذي يقوم عليه دينُ هذه البلاد, فأمريكا وهي الدولة العظمى من حيثُ القوة, لم تتفق على دستور واحد بل لكل ولاية دستور خاص بها, فإيهما أقرب وأولى – بزعمكم - للديمقراطية هل هو القرآن والسنة, أم هو ما وضعتموه من بنات أفكاركم!!
يقولون أنه لا يُمكن أن يوجد, مجتمع متحضر ليس فيه أحزاب سياسية, ولا يُمكن أن نرضى بالإسلام وهو يسمح للحاكم أن يبقى في الحُكم إلى أن يموت فالديمقراطية تمنع ذلك.
أما الجواب على الشبهة الأولى: وهي أن الإسلام يمنع من وجود الأحزاب, فأسمعوا إلى قولِ رجلٍ خبير, عايش تلك الأمور في تلك البلاد وغيرها.
يقول: "إن كثيراً من الناس يعتقدون أن الشأن في تلك الحكومات, والأحزاب فإذا ذهبت وزارةٌ وجاءت أخرى, وإذا ذهب حزبٌ, وجاء أخر فقد أنحلت الأزمة, وأنقشعت المشكلة, إن هذا حُكمٌ خاطئٌ ومستعجل, ومبنيٌ على قِصر النظر, ليست المسألة مسألة أحزابٍ أو حكومات, أو شيءٍ من التعديلات, إن المسألة مسألة العقلية, والإعتقاد, والنفوس, والقلوب , فلا فائدة في التغييرات فإن تبديل حزب بأخر, أو حكومة بأخرى, لا يُقدم شيئاً ولا يؤخر, إن الأفراد –أي أفراد الشعوب- كُلهم يلتقون للخضوع للمادة, والاستئثار, وخدمة النفس, وهذه النفس قد تُقصر فتصبح نفساً فردية, وقد تتسع فتصبح نفساً حزبية, إن هذه العقلية هي التي تُصيطر على العالم كُله اليوم, وكُل ما نعاني من فساد الأوضاع مرده إلى فساد هذه النفوس, وهيمنة هذه العقلية الخاضعة للمادة, الخادمة للمصلحة المستأثرة الأنانية, هذا هو الداء يا أخوان, فلا تخدعوا أنفسكم, وكلما جربتم النظر ونزلتم إلى أعماق الحقائق, فإنكم ستجدون أن أصل البلاء هو شيءٌ واحد, هو عبادة النفس, فإذا لم تتغير هذه النفوس, التي تعبد المادة فلن تتغير هذه الأوضاع أبدا, إن هذا التنافس الذي تتحدث به الصحف, والذي قد يؤدي إلى حروبٍ طاحنة تستمر سنين طوالاً تطحن الأمم, هو تنافسٌ في الأغراض فقط, لا تنافس بين الخير والشر, وإن هذا الصراع القائم بين الأمم ليس معناه أن أمةً منها تُريد أن تصيطر على العالم لتقضي على الأوضاع الفاسدة, ولتخدم الإنسانية, وتنفذ أحكام الله, وتحارب الفساد وتساوي بين الناس, وتُقيم القسط والعدل وتأمر بالمعروف وتنهى على المنكر, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة كما قال تعالى: [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ], {الحج:41}
لا أيه الأخوان إنما هو تنافس على القيادة كُل أمةٌ تريــد أن تمتلك الحكم, لتنفذ شهواتها فالنزاع فيمن يكون صاحب الأمر والنهي وفيمن تكون له قوة إرضاء الشهوات وخدمة المصالح الذاتية الحزبية.
فبريطانيا وحليفاتها مثلاً, لم تكن تنازع المعسكر الشيوعي لتقيم القسط والحق, وكذلك المعسكر الشيوعي لم يكن في وقت من الأوقات لينازع الأوربيين, في سبيل إقامة العدل إنما يُصارع ويُحارب, ليكون هو المعسكر الوحيد في العالم, الذي يهيمن على وسائل وإمكانات البشرية, وليحتكم التجارة العالمية , ليس لمصلحة البشرية, وليكون الذين يؤمنون بمبادئه وينظمون إليه يسعدون على حساب الأمم والشعوب التي يسيطرون عليها.
إن مرد هذه الصراعات كلها, هو شهوة النفس, وعبادتها ومالم تتغير النفس الفاسدة العفنة, فلا مطمع في صلاح العالم أو سعادته أو رفاهيته, المهم أو الأهم أيه الأخوة, أن يتغير الإنسان, إن كل شيء في هذا العالم خاضعٌ للإنسان, والإنسان خاضعٌ لنفسه, وضميره وعقيدته, فإذا كانت صالحة كان الإنسان صالحاً, وإذا صلح الإنسان صلح العالم, (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدة فسد الجسد كله, ألا وهي القلب), لقد أصبح الناس مؤمنين بحكم ما يكتبه أو يقوله أناسٌ لم يتعمقوا في العلم, مؤمنين في أن صلاح العالم يكون في وجود حكومة على أساس كذا وكذا, أو في تولي الرجل الفلاني, أو الحزب الفلاني, ومادروا أن المجتمع فاسدٌ لفساد الضمائر والقلوب, ومالم تصلح فلا يؤمن الصلاح."
إذاً ملخص هذا الكلام بالنسبة لم يدعونه, من ضرورة وجود الأحزاب, لم يكن ولن يكونَ, ولن تكون مصلحته عائدة للناس, وإنما مصلحته للذين يطالبون بوجود هذه الأحزاب, أو يمثلون هذه الأحزاب أضف إلى ذلك أن كِتاب الله صريح في ذم الفرقة والتحزب قال تعالى: [مِنَ المُشْرِكِينَ*مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]. {الرُّوم32:31}
وقال سبحانه وتعالى: [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]. {آل عمران:105}
أما ما يتعلق بمسألةِ أن الإسلام يسمح بوجود الحاكم وأن النظام الليبرالي لا يُعطي الحاكم فرصة إلا بمقدارٍ معين وهذا مالم يأت به الإسلام.
فنقول: فعلاً لا يشترط الإسلام تحديد الزمن, الذي يبقى فيه الحاكم على السلطة, فمنذ الصدر الأول والحكم يتم بالاستخلاف والشورى, وقد قال صلى الله عليه وسلم (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) أخرجه البخاري من حديث أنس.
والحاكم مأمور من الله سبحانه وتعالى بالعدل في رعيته, فالإسلام يقرر أن صلاح أحوال المجتمع ليس بتبدل الحاكم, ولا تبدل الحكومات, ولا تبدل الأحزاب, ليس هذا هو الحل في الإسلام أبداً, فالقرآن والسنة بينا أن صلاح أحوال المجتمع ليس مربوطا بصلاح حال الحاكم فقط, وإنما هو مربوط بصلاح أحوال المحكومين, فما الحاكم إلا فردٌ من هذا المجتمع, ومن إفرازات هذا المجتمع إن صلح المجتمع صلح الحاكم, وإن فسد المجتمع فسد الحاكم, وهذا دليلٌه في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما كتاب الله فقد قال تعالى: [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ], {الأنعام:129} وقال سبحانه وتعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ], {الرعد:11} وقال سبحانه وتعالى: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا], {النساء:66} وقال سبحانه وتعالى: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]. {الأعراف:96} وقال عليه السلام (عن زِيَادِ بن لَبِيدٍ قال ذَكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ قلت يا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إن كنت لَأَرَاكَ من أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ أو ليس هذه الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يقرأون التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا) رواه أهل السنن وابن حبان في الصحيح , والشاهد أن النبي عليه السلام عزا ما يحصل للمسلمين من فساد لترك العمل بالقران وأشار في حديث ابن عمر الذي أخرجه الشيخان إلى سبب آخر فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) وهو ظهور أناس جهال يفتون برأيهم.
وتأمل قوله تعالى: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] {الزُّخرف:54} فلم يكن فرعونُ ليستخفهم وهم صالحون: أهل علم نافع, وعملٍ صالح, إنما أستخفهم لأنهم فسقه, فقيام المجتمع المسلم بأمر الله, أعظم ضمانٌ لهم, لإقامة الحاكم شرع الله, والعدل فيهم, هذا ماجاء به الإسلام, وقد أشتهر عن السلف قولهم: [كما تكونوا يولى عليكم].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية " وفى الآثار يقول الله: أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إلى وأطيعون أعطفهم عليكم
ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... الآية] {آل عمران:165} )
ومن هُنا مع الأسف نسمعُ أحياناً أن بعضَ الناس, إذا تكلَّم عن البلاد العربية, وأنها تُعاني مشاكل أقتصادية, وإدارية , يجعلون جميع هذه البلاد في مستوى واحد, ويقول البلاد العربية كلها لا تحكم بشرع الله وجميعها لا يوجد فيها نوع من العدالة, وهذا ظلم وحربٌ للقرآن والسنة وحرب للإسلام, فكأنهم يقولون لأهل هذه البلاد لم ينفعكم تحكيمكم لشرع الله , فإما أن تطبقوا الإسلام بحذافيره وإلا لاينفعكم ماتدعونه من الدفاع عن العقيدة والسنة , فالأمر عندهم كما يقال إما أبيض أو أسود ولايوجد حلول أخرى والرد على هذا من وجوه:الوجه الأول : أن يقال أن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها , وتعطيل المفاسد وتقليلها , ومطلوبها ترجيح خير الخيرين اذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين اذا لم يندفعا جميعا قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30 وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم تعلمة الملائكة
وقد سأل شيخ الإسلام ابن تيمية : أن يخفف تلك المكوس التى في إقطاعه فيسقط النصف والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه وقد عرفت نيته وإجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم بل يبقى ويزداد فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر وهل عليه إثم في هذا الفعل أم لا وإذا لم يكن عليه إثم فهل يطالب على ذلك أم لا وأى الأمرين خير له أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به ورفع ما رفعه من الظلم فهل الأولى له أن يوافق الرعية أم يرفع يده والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده
فأجاب الحمد لله نعم إذا كان مجتهدا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره وإستيلاؤه على الإقطاع خير من إستيلاء غيره كما قد ذكر فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه , وقد يكون ذلك عليه واجبا إذا لم يقم به غيره قادرا عليه فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم وما يقرره الملوك من الوظائف التى لا يمكنه رفعها لا يطلب بها وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالا لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف وإذا لم يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده ولا يخففه كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيرا للمسلمين من إقرارها كلها ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان من غيره والمقطع الذى يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم يثاب ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره ولا ضمان عليه فيما أخذه ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدا في العدل والإحسان بحسب الإمكان وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم فإنه محسن في ذلك غير مسيء وذلك مثل ما يعطى هؤلاء المكاسين وغيرهم في الطرقات والأشوال والأموال التى ائتمنوا كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار والوظائف المرتبة على ما يباع ويشترى فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلابد أن يؤدى هذه الوظائف فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم , والذى ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليهم فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطريق فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم فمن قال لتلك القافلة لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئا من الأموال التى معكم للناس فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذى ينهى عن دفعه ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير وسلبوا مع ذلك فهذا مما لا يشير به عاقل فضلا أن تأتى به الشرائع فإن الله بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان , فهذا المتولى المقطع الذى يدفع بما يوجد من الوظائف ويصرف إلى من نسبه مستقرا على ولايته وإقطاعه ظلما وشرا كثيرا عن المسلمين أعظم من ذلك ولا يمكنه دفعه إلا بذلك إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئا هو مثاب على ذلك ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة , وهذا بمنزلة وصى اليتيم وناظر الوقف الذى لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم فولايته جائزة ولا إثم عليه فيما يدفعه بل قد تجب عليه هذه الولاية " مجموع الفتاوى ج30/ص359
الوجهُ الثاني : أن هذه البلاد المملكة العربية السعودية, تتميزُ من حيث الموقع الجغرافي, بأنها في قلب جزيرة العرب, فهي قبلةُ المسلمين وإمامهم الذي يُقتدى به, وفيها أعظم بقعتين مقدستين, للمسلمين وهما المسجد الحرام, والمسجد النبوي , وولاة أمرها وعلماؤها ومواطنوها يقومون بخدمة حجيج بيت الله الحرام
والأمر الثالث : يتميز معظم أهلها بفضل الله عليهم, ثم بفضل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ومن ناصره, بوحدة العقيدة والشريعة والمنهاج والولاية فهم ليسوا بحاجة إلى أحزابٍ سياسية تُديرُ دفـَّةَ الحُكم بينها, وتتعاقب مداولة السلطة فدستورهم يمنعُ ذلك, ويحثهم على الشورى فيما بين أهل الحل والعقد منهم ويمنع دخول الغوغاء والرعاع كما هي حالُ المجتمعات الغربية في الإنتخابات, المقصود: أن الإسلام يمنع من ذلك بدليل قول الله تعالى, [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ]. {النساء:83}
والله سُبحانه وتعالى يمنع دخول الغوغاء والرعاع فيما يتعلق بالسياسة الشرعية, لأن في هذا عزلا للشريعة عن حكم الناس , ولو قدر أن النظام الديمقراطي هو الأصلح للمجتمعات النصرانية أو اليهودية أو الوثنية , فلأنهم لايوجد في دياناتهم مايفي بمتطلبات الحياة , فلذا قام اقتصادهم على الربا والمراهنات ( القمار) ومجتمعاتهم على الحياة العبثية , وأما المسلمون فالأمر مختلف تماما , فشريعتهم ليست مجرد دستور بل نظام حياة متكامل.
الأمر الذي يليه: أن المملكة العربية السعودية, مُقارنتها في البلدان الأخرى العربية مُقارنة ظالمة, فهي لم تنشأ أثر استعمار, يخلقُ فيها المشاكل الإدارية, الاقتصادية, والاجتماعية, كما هي حال البلاد العربية, فكُلُ البلاد العربية إلا ما شاء الله, استعمرت وهذا الاستعمار ولَّـد عند خروجه من عندهم مشاكل إدارية, واقتصادية, ودينية, , واجتماعية, ثم تولى الحكم بعدهم في كثير من ألبلاد العربية طغام لا يعرفون من الدين إلا ما أشرب من هواهم فلم يحكم بشرع الله ولم يمكن العلماء من السلطة التشريعية, ولا إدارة شؤون الناس الدينية إلا بقدر ضئيل لا يقاوم أسباب الفساد.
إذاً المملكة العربية السعودية الناس فيها أهل عقيدةً واحدة, وأهل فرقةً واحده وأهل شريعةً واحده, حينئذٍ لا يُمكن أن تُقارنها بغيرها, فلا يُمكن أن نقبل قول بعضهم , إن الحلَّ لكم أهل هذه البلاد أن تبحثوا عن ديمقراطية أنتم مُتخلفون أنتم رجعيون, نحنُ ولله الحمد نعيشُ بأمن وأمان, وراضون بِحكم الله ونعلمُ أنه لا خير لنا إلا بشرع الله عز وجل, وأعظم ثمار أي حكم على مر التاريخ هو توفر العدل والأمن ووحدة العقيدة والولاية.
الوجه الذي يليه: أن أهل هذه البلاد وولاة أمرها, وعامتها لم يرفعوا يوماً من الدهر شعارا سوى الإسلام, لم يرفعوا فكراً سوى الإسلام يدعون إليه, لا لبرالية, ولا علمانية, ولا اشتراكيه, ولا غيرها فهم لا يرضون عن الإسلامِ بديلاً, وأيضاً أن أهل هذه البلاد حُكامها وعامتها, لم يتبنوا قانوناً ولا نظاماً, فرنسياً كان أو انجليزياً, أو ما عداها للحكم بين الناس, أبداً وهذا ما تلوثت به بعض البلاد العربية والإسلامية.
الوجه الذي يليه: إن أعظم ما يُثيرُ, أعداءُ الإسلام على هذه البلاد, من شبه ما يزعمونه الدفاع عن حقوق الإنسان, قال تعالى: [مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا], {الزُّخرف:58} ودستور هذه البلاد المُستمد من عدالة القران , هو أعظم كفيلٍ بضمان حقوق الإنسان, بل حتى مع أعدائنا, ولكن ذلك بحدودٍ, لا تتجاوز حدود الخالق سُبحانه وتعالى, فلا تعود بالضرر على الجماعة المسلمة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يقول بعض المتفلسفة: إن المقصود بالدين مجرد المصلحة الدنيوية, وليس المقصود بالدين الحق, مجرد المصلحة الدنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيوية, كما يقوله طوائف من المتفلسفة في مقصود النواميس والنبوات أن المراد بها مجرد وضع ما يحتاج إليه معاشهم في الدنيا من القانون العدلي الذي ينتظم به معاشهم, لكن هذا قد يكون المقصود في أديان من لم يؤمن بالله ورسوله من إتباع الملوك المتفلسفة, ونحوهم مثل: قوم نوح, ونمرود وجنكيزخان وغيرهم, فإن كل طائفة من بني آدم محتاجون إلي التزام واجبات, وترك محرمات يقوم بها معاشهم وحياتهم الدنيوية, وربما جعلوا مع ذلك ما به يستولون به علي غيرهم من الأصناف ويقهرونه كفعل الملوك الظالمين مثل جنكيزخان.
فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلب المنفعة في الحياة الدنيا ودفع المضرة فيها, فليس لهؤلاء في الآخرة من خلاق, ثم إن كان مع ذلك جعلوه ليستولوا به علي غيرهم من بني آدم, ويقهرونهم كفعل فرعون وجنكيزخان ونحوهما فهؤلاء من أعظم الناس عذابا في الآخرة, كما قال تعالى: [نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] {القصص4:3}
وقد قص الله سبحانه قصة فرعون في غير موضع من القرآن, وكان هو وقومه علي دين لهم من دين الملوك, كما قال تعالى في قصة يوسف: [مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ], {يوسف:76} وهذا الملك كان فرعون يوسف, وكان قبل فرعون موسى, وفرعون: اسم لمن يملك مصر من القبط, وهو اسم جنس كقيصر, وكسري, والنجاشي, ونحو ذلك, وهؤلاء المتفلسفة الصابئة المبتدعة من المشائين, ومن سلك مسلكهم من المنتسبين إلي الملل في المسلمين واليهود والنصارى, يجعلون الشرائع والنواميس, والديانات من هذا الجنس, لوضع قانون تتم به مصلحة الحياة الدنيا, ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد: وهو عبادة الله وحده, ولا بالعمل للدار الآخرة, ولا ينهون فيها عن الشرك: بل يأمرون فيها بالعدل, والصدق, والوفاء بالعهد, ونحو ذلك من الأمور التي لا تتم مصلحة الحياة الدنيا إلا بها, ويشرعون التأله للمخلصين والمشركين) , وقد صرح المُنصفون من غير المسلمين, وهو رئيس جنوب أفريقيا وهوُ معروف واسمه مندلا يقول: إن في المملكة العربية السعودية من رعاية الإنسان, وضمان حقوقه مع العيش الكريم, تعليماً وعِلاجاً وإسكاناً, وصيانةً لدمه وعِرضه وماله, ما لا يوجد في الدول العظمى التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان.
ومن الأشياء التي يدندنون حولها على هذه البلاد أنهم يقولون ومع الأسف بعض من يقول ذلك ينتسبون للعلم ولكن تلوثوا بالثقافة الغربية يقولون: إن المملكة منعت المرأة من قيادة السيارة, فكيف تسمح لها بالعمل السياسي.
فالجوابً: إن حقوق المرأة في المملكة العربية السعودية, مُصانة ومكرمة, فلها حق العمل في مجالها التي أذن الله لها فيه, ولها حق الامتلاك والبيع والشراء, بل لها أن تدلي برأيها في مجال عملها, في مجلس الشورى, إلا أنها لم تصغ للدعوات المطالبة لها أن تسير في رِكاب الغرب, انحلالاً وانسلاخاً, من القيم والآداب, والتي كانت السبب الرئيس في تهتك الحياة الأسرية, والأجتماعية في تلك البلاد ومن شابههم في بعض بلاد المسلمين من جعل المرأة سلعة , حتى بلغ بهم الداء إلى منح المرأة بطاقة للزنا , بل إلى مايسمى بيع الرقيق الأبيض, فأي تقدمية هذه ساء مايحكمون , قال العلامة المحقق محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان: (واعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن هذه الفكرة الكافرة, الخاطئة, الخاسئة, المخالِفة للحس والعقل, وللوحي السماوي, وتشريع الخالق البارِىء من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام, والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته, وذلك لأِن الله جلَّ وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحاً لا يصلحه لها غيرها كالحمل والوضع, والإرضاع, وتربية الأولاد, وخدمة البيت, والقيام على شؤونه من طبخ, وعجن وكنس, ونحو ذلك, وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة, وعفاف, ومحافظة على الشرف والفضيلة, والقِيم الإنسانية لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب, فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم أن المرأة لها من الحقوق في الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل, مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها لا قدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة, كما هو مشاهد, فإذا خرجت هي وزوجها, بقيت خدمات البيت كلها ضائعة من حفظ الأولاد الصغار, وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم, وتهيئة الأكل والشرب للرجل, إذا جاء من عمله فلو أجروا إنساناً يقوم مقامها لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت المرأة فراراً منه, فعادت النتيجة في حافرتها على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة, والدين, لأن المرأة متاع هو خير متاع الدنيا, وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضاً للخيانة لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكراً, فتعريضها لأَن تكون مائدة للخونة فيه ما لا يخفى على أدنى عاقل, وكذلك إذا لمس شيئاً من بدنها بدن خائن, سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية, ولاسيَّما إذا كان القلب فارغاً من خشية الله, فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدراً, وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر, واللمس يكون غالباً سبباً لما هو شر منه, كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام, وتركت الصيانة, فصارت نساؤها يخرجن متبرِّجات, عاريات الأجسام إلا ما شاء الله, لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيما, نعوذ بالله من مسخ الضمير, والذوق, ومن كل سوء ودعوى الجهلة السفلة أن دوام خروج النساء بادية الرُّؤوس, والأعناق والمعاصم, والأذرع, والسوق ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال, لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس, كلام في غاية السقوط والخسة لأن معناه: إشباع الرَّغبة مما لا يجوز حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته, وهذا كما ترى ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء, لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما, ولا تزال ملامسته لها ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته, كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر:
لقد أسمعت لو ناديتَ حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
وقد أَمر رب السموات والأرض, خالق هذا الكون ومدبر شؤونه العالم بخفايا أموره, وبكل ما كان وما سيكون بغض البصر عما لا يحل قال: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ]. {النور31:30}
ونهى المرأة أن تضرب برجلها لتسمع الرجال صوت خلخالها في قوله: [وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زينتهنَّ], ونهاهن عن لين الكلام, لئلا يطمع أهل الخنى فيهن قال: [فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً])
أما مُطالبة بعضم دخول المرأة مجال السياسة, بل إن بعضهم يعده من الإسلام ويستدلون بخروج عائشة في معركة الجمل, وأن هذه مُشاركةٌ سياسية, وبقول الله عز وجل: [إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ], {الممتحنة:12} فلا شك أن هذا جهلٌ فاضح, وعارٌ على من أنتسب إلى العلم, فإين في كتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وكلام أئمة الإسلام على مر العصور, ما يدل على ذلك, قال الله سبحانه وتعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ], {النساء:34} فهذا في القوامة الصغرى, وهو حُكم الرجل في بيته وأسرته, للنساء والسفهاء, فكيف بالقوامة الكبرى؟! وهي أن تحكم المرأة الناس في السياسة العامة, فإن هذا مُناقضٌ للفطرة والشريعة, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: (لا يفلحُ قومٌ ولوا أمرهم امرأة), وقال النبي صلى الله عليه وسلم, مبيناً أن الأمور بيد الرجل: ( لا نكاحا إلا بولي), فلا يحل لها أن تزوج نفسها, بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي هو دستورنا فجميع الخطابات في القرآن, والسنة موجهةٌ للرجال, كقوله تعالى: [وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ ...الآية], {النساء:15} وقوله تعالى: [وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ], {النساء:22} وقوله تعالى: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ], {البقرة:228} وأمر الإسلام, ببقاء المرأة في بيتها وعدم الخروج إلا لحاجة, وقال سُبحانه وتعالى: [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى]. {الأحزاب:33}
ومنع من الاختلاط بها, فقال: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ], {الأحزاب:53} بل الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين, قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تمنعوا إِمَاءَ الله مساجد الله, وبيوتهن خيرٌ لهن), فكيف تُطالب المرأة للعمل في مجال السياسة, والأدلة على ذلك أكثر من تحصى أو تقصر.
وأما الاستدلال بالشبه والمتشابهات: وهو خروج عائشة, فهو من إتباع بُنيات الطريق, فعائشةَ رضي الله عنها لم تخرج زعيمةً, وإنما خرجت مُطالبةً بدم عُثمان رضي الله عنه, هذا من جهه, ومن جهةٍ أخرى: فإنها ندمت على خروجها وأقرت بإنهُ خطأٌ وقعت فيه, هذا مع أن مصدر التشريع لا يؤخذ من أخطاء وقعت في التاريخ, أقر أصحابها على أنفسهم أنهم أخطأوا بل هو الكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم, ثُم إن عائشة رضي الله عنها عاشت بعد ذلك طويلاً, ولم تدخل أو تتدخل في السياسة العامة مطلقاً, وأما استدلالهم بقوله تعالى: [إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ..الآية]فهذا من سوء فهمهم فهذه بيعةٌ على الإسلام, والالتزام بأحكامه وتعاليمه, لا على الإمامة والولاية فتلك, خاصةٌ بالرجال فإنهم أهل الحل والعقد, القادرون على القيام بأعباء الجهاد وسد الثغور.
ومع ذلك فكما تقدم لا يمنع أن يكون, لبعض النساء من العقل والرزانة, ما يمكن الاستفادة من رأيها كما استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من رأي أم سلمة, في الحديبية وأني لأعجب غاية العجب, من دعوة الغربيين ومن أخذ بسننهم, الدعوة لمشاركة المرأة في العمل السياسي, حتى تكون زعيمةً ورئيسةً, ويتوقف على رأيها مصائر شعوب, وهم مع ذلك ينقدون الإسلام في باب تعدد الزوجات, فالرجل عندهم يُمنع من الزواج, بأكثر من امرأة واحده, والمرأة لها الحق أن تحكم الملايين من الخلق, فماذا بعد الحق إلا الضلال.
الوجه الذي يليه: أنهم يدندنون كثيراً أن القضاءَ في الإسلام قضاء لايفي بمتطلبات الحياة.
فالجواب على ذلك: أن يُقال إن القضاء في الإسلام مُستمد من الكتاب والسنة, وعقيدتنا أن الكتاب والسنة, هُما رسالة الله إلى الخلق أجمعين, وفيهما الضمان لتحقيق العدالة, بين الخلق قال الله سُبحانه وتعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ], {النحل:90} وقال سُبحانه وتعالى: [إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ], {الإسراء:9} وقال سُبحانه وتعالى: [اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ], {الأعراف:3} وقال سبحانه وتعالى: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا], {النساء:65} وقال سُبحانه وتعالى: [فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ]. {المائدة:48}
ومن هُنا فإنه يُشترط في الإسلام, أمورٌ لابد أن تتوفر فيمن تولى القضاء.أولهما: الديانة بحيث يكون ورعاً أميناً, عدلاً.
ثانيهما: العلم بالكتاب والسنة, ومعرفة مقاصدهما وقواعدهما, العامة, فالقاضي في باب الإثبات: يُعتبر شاهداً, وفي باب الأمرِ والنهي: يُعتبر مُفتياً, وفي باب القيام بالحُكم: يُعتبر مُنفذاً.
ثم إن الشريعة بينت للحاكم والقاضي الأمور التي لا مجال للرأي فيها , وما يمكنه الإجتهاد فيه كما تقدم في أول المحاضرة , قال عليه السلام (إذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ), أخرجه البخاري من عبدالله بن عمرو.
وبالجملة فالمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة:
الأولى: درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات.
والثانية: جلب المصالح المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات.
والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق, ومحاسن العادات المعروف عند أهل الأصول, بالتحسينيات, والتتميمات, وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها.
فالضروريات التي هي درء المفاسد: إنما هي درؤها عن ستة أشياء:
الأوَّل: الدين وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعد لها كما قال {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ}, وفي آية الأنفال:{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ}, وقال:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}, وقال صلى الله عليه وسلم: [أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدو أن لا إله إلا الله الحديث], وقال صلى الله عليه وسلم: [من بدل دينه فاقتلوه], إلى غير ذلك من الأدلة على المحافظة على الدين.
والثاني: النفس وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها, ولذلك أوجب القصاص درءاً للمفسدة عن الأنفس كما قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ}, وقال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى وقال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا}.
الثالث: العقل وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ و